فصل: مسألة الذي يأتي بشاهد واحد في حق لأبيه كيف يحلف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة الذي يأتي بشاهد واحد في حق لأبيه كيف يحلف:

وسئل مالك: عن الذي يأتي بشاهد واحد في حق لأبيه كيف يحلف؟ أعلى البتات أم على العلم؟ قال: على البتات إنه حق، ولكن إن جاء بشاهدين أحلف بالله إن أباه اقتضاه، ويحلف مع الشاهد على الحق بالبتات، ومع الشاهدين على العلم.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يحلف مع الشاهد على البتات صحيح؛ لأن يمينه تقوم مقام الشاهد الآخر، فكما يشهد الشاهد على البت، كذلك يحلف هو على البت إن الحق حق، كما شهد به الشاهد، لا يحكم له بالحق إلا بذلك، ولا يقبل منه أن يحلف على العلم، فيقول: بالله ما نعلم الشاهد شهد لي بباطل، ولا يصح له فيما بينه وبين خالقه أن يحلف على البتات إلا أن يوقن بصحة ما شهد به الشاهد بأسباب يقع له اليقين بها هو أعلم بها فيدين في ذلك، ويمكن من اليمين. وقد مضى هذا في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من كتاب الأيمان بالطلاق.
وأما قوله: إنه يحلف مع الشاهدين على العلم فلا يصح ذلك إذا كان المشهود عليه منكرا، وإنما يصح إذا أقر بما شهدا به عليه، وادعى أنه قد قضى الميت، وهذا كبير يظن أنه قد علم به، وقد قيل: إنه لا يمين عليه إلا أن يدعي عليه العلم، والقولان في المدونة، وإن كان الدين ثبت على ميت لميت وارثه كبير حلف على القول الأول، وإن لم يدع ورثة الذي ثبت الدين عليه أنه قد كان قضاه، وأن وارثه قد علم، ولم يحلف على القول الثاني إلا أن يدعوا قضاء وأن هذا قد علم، والاختلاف في هذا على اختلافهم في لحوق يمين التهمة دون تحقيق الدعوى، وفي المكان الذي يجب فيه اليمين مع الشاهدين ما علم أنه اقتضاه، لابد أن نزيده في يمينه مع الشاهد الواحد، فهذا بيان هذه المسألة، وبالله التوفيق.

.مسألة رجلان شهدا لرجل في مسكن له فشهد رجل أنه مسكنه والآخر أنه حيزه:

وسئل مالك: عن رجلين شهدا لرجل في مسكن له، فشهد رجل أنه مسكنه، وشهد آخر أنه حيزه، أترى هذه شهادة واحدة؟ فإن خصمه احتج بأن يقول له إن هذه شهادة مختلفة؟ قال مالك: أرى حيزه ومسكنه شهادة واحدة لا تفترق، وربما كانت الشهادة الكلام فيها مختلف، والمعنى فيها واحد، وأراها شهادة واحدة، ولا أرى أن يدفع عن حقه لما اختلف من الكلام والمعنى واحد، وأراها شهادة واحدة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة منصوصة في كتاب الغصب من المدونة بينة المعنى؛ لأن الأحكام إنما تتعلق بالمعاني، لا بالألفاظ، فإذا اختلف اللفظ في الشهادة واتفق المعنى فيها لفقت باتفاق، مثل أن يشهد الشاهدان للرجل، فيقول أحدهما: أشهد أن الدار داره، ويقول الآخر: أشهد أن المنزل منزله، أو يشهد في الطلاق على الرجل أحد الشاهدين ببراءة والثاني بخلية وما أشبه ذلك كثيرا، وإن اختلف اللفظ والمعنى، واتفق ما يوجبه الحكم مثل أن يشهد أحد الشاهدين في دار بيد رجل أنها لرجل، ويشهد آخر أنه غصبها إياه؛ لأن الحكم يتفق في كلتي الشهادتين على أن يقضي للمشهود له بالدار، وإن كان للغصب أحكام تختص به دون الاستحقاق من غير غصب، ومثل أن يشهد شاهد على رجل أنه طلق امرأته ثلاثا، ويشهد آخر أنه صالحها؛ لأن الحكم يتفق في كلتي الشهادتين على إيجاب التفرقة بينهما. وإن اختلف فيما سوى ذلك، وبالله التوفيق.

.مسألة إذا شهد عليه شاهدان أنه كتابه بيده يؤخذ منه الحق:

وسئل مالك: عن رجل كتب عليه رجل ذكر حق، وأشهد فيه رجلين، فكتب الذي عليه الحق شهادته على نفسه بيده في ذكر الحق، فهلك الشاهدان، ثم جحد، فأتى رجلان فقالا: نشهد أنه كتابه بيده، قال مالك: إذا شهد عليه شاهدان أنه كتابه بيده، رأيت أن يؤخذ منه الحق، ولا ينفعه إنكاره، وإنما ذلك عندي بمنزلة ما لو أقر ثم جحد وشهد عليه رجلان بإقراره، فأرى أن يغرم، فقال له رجل: ألا ترى هذه تشبه رجلا يشهد عليه رجلان بشهادة فأنكرها فلم تجز شهادة الرجلين؟ قال: لا يشبه، قيل له: أترى عليه يمينا مع شهادة الرجلين على شهادته بكتابه بيده أنه كتابه؟ قال: لا يمين عليه، وإنما اليمين مع الشاهد، وهذا قد استوجب حقه، ولا يمين عليه، وأرى أن يغرم له.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن شهادة الرجل على نفسه إقرار عليها، وإقراره على نفسه شهادة عليها، فإذا كتب الرجل شهادته في ذكر الحق المكتوب عليه، أو كتب ذكر الحق ولم يكتب فيه شهادته، فقد أقر على نفسه، إذ لا فرق بين أن يكتب لفلان علي كذا وكذا، أو لفلان على فلان كذا، ويسمي نفسه، وإن كتب ذكر الحق على نفسه بيده، فقال: فيه لفلان على فلان كذا وكذا ثم كتب فيه شهادته، فهو أقوى في الإقرار؛ لأنه إقرار بعد إقرار، وإنما يختلف إذا كتب شهادته في ذكر حق على أبيه، ثم مات أبوه، وهو وارثه، فقام صاحب الحق عليه بذكر الحق على أبيه، وفيه شهادته فأقر بالشهادة، وزعم أنه كتبها على غير حق، أو أنكرها، فشهد على خطه، فقال مطرف وأصبغ: يؤخذ بالحق؛ لأن مال أبيه لما صار إليه فكأن الشهادة على نفسه.
وقال ابن الماجشون: ليس ما شهد به على غيره وإن صار ماله إليه كما لو شهد على نفسه، ولا يؤخذ منه الحق إلا بإقرار سوى خط شهادته، ومحمله محمل الشهادة لا محمل الإقرار، واختار ابن حبيب قول مطرف وأصبغ، وقول ابن الماجشون أقيس.
والشهادة على خط المقر كالشهادة على إقراره، سواء عند من يجيز الشهادة في ذلك على الخط أن يشهد على خطه شاهد واحد كانت مع شهادته اليمين، وإن شهد على خطه شاهدان أخذ المشهود له حقه بشهادتهما دون يمين، والمشهور في المذهب أن الشهادة على الخط في ذلك جائزة عاملة لم يختلف في ذلك قول مالك ولا قول أحد من أصحابه فيما علمت، إلا ما يروى عن محمد بن عبد الحكم من أنه قال لا تجوز الشهادة على الخط مجملا، ولم يخص موضعا من موضع.
ونزلت هذه المسألة في أيام ابن لبابة فأفتى فيها جميع معاصريه بإعمال الشهادة، وقال هو: إنها لا تجوز، وحكى ذلك عن مالك من رواية ابن نافع، وفي المبسوط من قول ابن نافع وروايته عن مالك أنها جائزة، كالمعلوم من مذهبه، خلاف ما حكاه عنه ابن لبابة، فأرى حكايته غلطا، والله أعلم.
وأما الشهادة على خط الشاهد الميت أو الغائب، فلم يختلف في الأمهات المشهورة قول مالك في إجازتها وإعمالها، وقد قيل: إنها لا تجوز، وروي ذلك عن مالك، وإلى هذا ذهب محمد بن المواز، وجعل الشهادة على خطه كالشهادة على شهادته إذا سمعها منه ولم يشهده عليها بقول، فكما لا يجوز له أن يشهد على شهادته إذا سمعها يقول لفلان على فلان كذا وكذا حتى يشهده على قوله، إذ قد يخبر الرجل بما لا يتحقق تحققا يتقلد الشهادة به، فكذلك لا يجوز له أن يشهد إذا رأى شهادته بخط يده في وثيقة بحق لفلان على فلان حتى يشهده على خطه، إذ قد يكتب شهادته من لا يتقلد الشهادة بها، ومن إذا دعي إليها استراب فيها وتوقف عنها. ومن لا يعرف المشهود عليه إلا بعينه، وقد لا يعرفه بعينه ولا باسمه.
ووجه من أجاز الشهادة على خطه، وفرق بين ذلك وبين الشهادة على شهادته إذا سمعها منه ولم يشهده عليها: أن الرجل قد يخبر بما لا يتحققه، ولا ينبغي للرجل أن يكتب شهادته حتى يتحقق ما يشهد عليه ويعرف من أشهده بالعين والاسم، مخافة أن يموت أو يغيب فيشهد على خطه، فأشبه ذلك من سمع رجلا يؤدي شهادته عند الحكم، أو يشهد عليها غيره أنه يشهد على شهادته بما سمع منه، وإن لم يشهده عليها، والقول الأول أظهر، إذ قد قيل، وهو قول ابن المواز: إنه لا يجوز له أن يشهد على شهادته حتى يشهده عليها وإن سمعه يؤديها عند الحكم، أو يشهد عليها غيره، مع أن وضع الشاهد شهادته في الكتب لا تقوى قوة ذلك، وقد قال ابن زرب: لا تجوز الشهادة على خط الشاهد حتى يعرف أن المشهود على خطه كان يعرف من أشهده معرفة العين، وذلك صحيح لا ينبغي أن يختلف فيه، لما قد تساهل الناس فيه من وضع لشهادتهم على من لا يعرفون.
وقد اختلف في حد الغيبة التي تجوز فيها الشهادة على خط الشاهد عند من يجيزها، فقيل: ما تقصر فيه الصلاة، وهو قول ابن الماجشون، وقال ابن سحنون عن أبيه: الغيبة البعيدة، ولم يحد قدرها، وحدها أصبغ فيما حكى عنه ابن مزين، فقال: مثل أفريقية من مصر، أو مكة من العراق، أو نحو ذلك.
والذي جرى به العمل عندنا على ما اختاره الشيوخ إجازتها في الأحباس، وما جرى مجراها مما هو حق لله وليس بحد.
وأما شهادة الشاهد على خطه إذا لم يذكر الشهادة فكان مالك أول زمانه يقول: إنه يشهد إذا كان الكتاب نقيا ولم يكن فيه شيء ولا محو يريبه، ثم رجع فقال: لا يشهد وإن صف خطه حتى يذكر الشهادة أو بعضها، أو ما يدله على حقيقتها وينفي التهمة عنه فيها، فأخذ بقوله الأول عامة أصحابه: مطرف، وابن الماجشون، والمغيرة، وابن أبي حازم، وابن دينار، وابن وهب وإليه ذهب ابن حبيب، وهو اختيار سحنون في نوازله.
قال مطرف: وعليه جماعة الناس. قال مطرف وابن الماجشون: وليقيم بالشهادة تامة بأن يقول ما فيه حق، وإن لم يحفظ مما في الكتاب عددا ولا مقعدا ولا يعلم السلطان بأنه لا يعرف غير خطه، فإن أعلمه بذلك وأنه لم يرتب في شيء لزم الحاكم رده.
وروى ابن وهب عن مالك في موطأه أنه إذا قال: هذا كتابي ولا يذكر الشهادة أنه يجيزها ويحكم بها.
وأخذ ابن القاسم وأصبغ بقول مالك الآخر أنه لا يشهد وإن عرف خطه حتى يذكر الشهادة، واختلف على هذا القول، هل يرفع شهادته أم لا؟ فقال مالك في المدونة: إنه يؤديها كما علم ولا تنفع، وهذا من مذهبه يدل على القول بتصويب المجتهدين، وقال ابن المواز: إنه لا يرفعها، وهو القياس على قول من قال: إن المجتهد قد يخطئ الحق عند الله، وإن لم يقصر في اجتهاده وامتثل أمر الله فيه، واختلف كيف يؤديها؟ فقيل: إنه يقول: هذه شهادتي بخط يدي ولا أذكرها.
وفي رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب يقول: أرى كتابا يشبه كتابي، وأظنه إياه، ولست أذكر شهادتي، ولا متى كتبتها، وعلى معنى هذا الاختلاف يأتي اختلافهم في الشهادة على خط المقر؛ لأن المعنى في ذلك إنما هو هل الخط رسم يدرك بحاسة البصر أم لا؟ وهذه المسألة يتحصل في المذهب فيها خمسة أقوال: أحدها: أنها شهادة جائزة يؤديها ويحكم بها. والثاني: أنها شهادة غير جائزة فلا يؤديها ولا يحكم بها إن أداها. والثالث: أنها شهادة غير جائزة إلا أن يؤديها ولا يحكم بها. والرابع: أنها إن كانت في كاغد لم يجز له أن يشهد، وإن كانت في رق جاز له أن يشهد، يريد- والله أعلم- إذا كانت الشهادة في بطن الرق، ولم تكن على ظهره؛ لأن البشر في ظهر الرق أخفى منه في الكاغد، والخامس: أنه إن كان ذكر الحق والشهادة بخطه جاز له أن يشهد، وإن لم يكن بخطه إلا الشهادة لم يجز له أن يشهد، حكى هذين القولين ابن الحارث، وقد ذكر سحنون في نوازله أن جميع أصحاب مالك يقولون شهادته جائزة إذا كان هو خط الكتاب وكتب شهادته، وهذه التفرقة استحسان، والقياس أن لا فرق بين أن يكون بخطه ذكر الحق والشهادة، وبين ألا يكون بخطه إلا الشهادة على المعنى الذي ذكرناه في الخط، هل هو رسم يدرك بحاسة البصر أم لا؟
فالوجوه التي تختلف في إجازة الشهادة على الخط فيها ثلاثة: الشهادة على خط المقر وهو أقواها في جواز الشهادة، وتليها الشهادة على خط الشاهد، وتليها شهادة الشاهد على خط نفسه وهو أضعفها في إجازة الشهادة، فمن لا يجيز الشهادة على خط المقر لا يجيز الشهادة على الخط في شيء من الوجوه الثلاثة، ومن يجيز شهادة الشاهد على خط نفسه يجيز الشهادة علي الخط في الوجوه كلها.
ويتحصل في الجملة أربعة أقوال: أحدها: أن الشهادة على الخط لا تجوز في شيء من الأشياء، والثاني: أنها لا تجوز إلا على خط المقر على نفسه، والثالث: أنها لا تجوز إلا على خط المقر على نفسه وعلى خط الشاهد، والرابع: أنها تجوز في الثلاثة المواضع على خط المقر على نفسه، وعلى خط الشاهد الميت أو الغائب، وشهادة الشاهد على خط نفسه، وبالله التوفيق.

.مسألة شهادة المولى لمولاه جائزة:

وسئل مالك: عن رجل أشهد لمولى له هو أعتقه وعنده أخوات له، هل ترى أن موضع أخواته عنده ممالك مما يخرج شهادته؟ قال: إن كان غير متهم وهو عدل مرضي جازت شهادته.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن شهادة المولى لمولاه جائزة على ما في المدونة وغيرها إذا كان مبرزا في العدالة، وهو معنى قوله في هذه الرواية إذا كان عدلا مرضيا غير متهم، ولا يقدح في شهادته له كون أخوات المشهود له مماليك له، إذ لا ينجر إليه بذلك منفعة، والله الموفق.

.مسألة من صور الشهادة على الشهادة:

وسئل: عن الرجلين يشهدان على الرجل، فقال أحدهما: حرام علي ما حل لي إن فرق بيني وبينك إلا ابن أبي سلمة، فشهد واحد على هذه الشهادة، وشهد الآخر أنه قال: إن استأذنت عليك إلا ابن أبي سلمة، فأنكر وقال: إنما قلت إن فارقتني حتى تعطيني حقي، قال: أرى أن يحلف أن الذي قالا ليس بحق، ولا أعرفه؛ لأني إنما أردت ألا تفارقني حتى تعطيني حقي.
قال القاضي: وقع في هذه المسألة في الأم إن استأذنت عليك ابن أبي سلمة، فقال فيه ابن أبي زيد: إنه غلط وأصلحه إلا ابن أبي سلمة، وهو على ما قاله مسألة فيها نظر؛ لأن المعنى في قوله: إن فرق بيني وبينك إلا ابن أبي سلمة أو إن استأذنت عليك إلا ابن أبي سلمة سواء، وهو قد قال في السؤال: إن الحالف المشهود عليه أنكر الشهادة، وقال: إنما قلت إن فارقتني حتى تعطيني حقي، فكان الواجب في ذلك على أصولهم ألا ينفعه إنكاره، ويلزمه ما شهدا به عليه، وإن اختلف لفظهما في الشهادة، إذ قد اتفق المعنى فيها، فتحرم عليه امرأته إن فارق غريمه ولم يستأذن عليه ابن أبي سلمة، ولا يقبل منه نية إن كان قضاه قبل أن يفارقه، فقال: إنما نويت إن لم تقضني حقي من أجل أنه قد أنكر، إلا أنه قد قيل: إنه تقبل منه البينة بعد الإنكار، وهو قول مالك في كتاب التخيير والتمليك من المدونة، وفي رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم، وفي رسم الطلاق من سماع أشهب، وفي رسم الكبش من سماع يحيى منه، ومن كتاب الأيمان بالطلاق، فيحتمل أيضا أن يتأول جوابه في هذه المسألة على هذا القول؛ لأنه قال فيه: أرى أن يحلف أن الذي قالا ليس بجوابي الذي شهدا به علي من أني قد حنثت فيما حلفت به، إذ قد فارقت غريمي ولم أرفعه إلى ابن أبي سلمة ليس بحق؛ لأني إنما أردت ألا يفارقني حتى يعطيني حقي، فنواه في يمينه وهو قد أنكرها، وساق يمينه على المعنى، والنص فيها أن يقول: بالله ما أردت أن استئذاني عليه إلا إن لم يعطني، وذلك هو الذي نويت في يميني، وقد أعطاه إياه فلا حنث عليه، وبالله التوفيق.

.مسألة شهادة الأعمى:

وسئل مالك: عن شهادة الأعمى هل تجوز شهادته؟ قال: نعم، إذا عرف ذلك وأثبته، وقد كان ابن أم مكتوم رجلا أعمى إماما مؤذنا على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا أثبت الأعمى ما شهد عليه جازت شهادته، قال مالك: وكذلك الرجل إذا شهد على المرأة من وراء الستر قد عرفها، وعرف صوتها، وأثبتها قبل ذلك فشهادته جائزة عليها.
قال مالك: وقد كان الناس يدخلون على أزواج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد موته وبينهم حجاب يسمعون منهن ويحدثون عنهن، وقد سأل أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وأبوه، عائشة وأم سلمة، وهما من وراء الحجاب، ثم أخبرا عنهما.
قال الإمام القاضي: مثل هذا في كتاب اللعان من المدونة وهو مما لا اختلاف فيه أحفظه في المذهب، وما احتج به مالك رَحِمَهُ اللَّهُ من إجازة شهادة الرجل على المرأة بما سمع منها من وراء الستر إذا كان قد عرف صوتها ليحدث أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أزواج النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ بعد موته بما سمعوا منهن من وراء الحجاب صحيح، لا خروج لأحد عنه، وكذلك احتجاجه على إجازة الشهادة على الصوت بكون ابن أم مكتوم مؤذنا إماما صحيح؛ لأن الإمام يقتدى بأذانه من يسمعه ولا يراه في أوقات الصلوات وطلوع الفجر في رمضان إذا علم عدالته، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن بلالا ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم».
فألزم الناس الاعتبار بأذانهما على ما عرفوا من أصواتهما، ولا معنى لقوله: وقد كان ابن أم مكتوم رجلا أعمى؛ لأن الحجة إنما هي في كونه إماما مؤذنا يقتدي به في صلاته وأذانه من لا يراه إلا في كونه رجلا أعمى، وقد قال ربيعة: لو لم تجز شهادة الأعمى ما جاز له وطء أمته ولا زوجته، وقوله صحيح ظاهر؛ لأنه لا يعرفها إلا بكلامها.
قال المغيرة: وسواء ولد أعمى أو لم يولد، شهادته مقبولة، والله الموفق ولا رب غيره ولا خير إلا خيره.

.مسألة الرجل يشهد للرجل على رجل وللشاهد على المشهود له حق:

ومن كتاب أوله اغتسل على غير نية:
وسئل مالك: عن الرجل يشهد للرجل على رجل وللشاهد على المشهود له حق، قال: لا يضر ذلك شهادته وهي جائزة، قال ابن القاسم: بلغني عنه أنه إذا كان المشهود له موسرا قبلت شهادته، وإن كان معدما لم تقبل؛ لأنه إنما شهد لنفسه. قال سحنون: قال ابن القاسم: وكذلك لو شهد رجل لرجل وللمشهود له على الشاهد حق أنه إن كان مليا جازت شهادته، وإن كان معدما لم تقبل ولم تجز.
قال محمد بن رشد: ما بلغ ابن القاسم عن مالك من تفرقته إذا كان الدين للشاهد على المشهود له بين أن يكون المشهود له مليا أو معدما مفسر لما سمعه منه من إجازته شهادته له مجملا، إذ لا يصح أن يختلف في أن شهادته له لا تجوز إذا كان معدما؛ لأن شهادته إنما هي لنفسه، وهذا إذا كان الدين حالا أو كان حلوله قريبا، وأما إن كان حلوله بعيدا فشهادته له جائزة كما تجوز إذا كان مليا، وشهادته له جائزة، فيما عدا الأموال، قال ذلك بعض أهل النظر وهو صحيح.
وأما إن كان الدين للمشهود له على الشاهد فأجاز أشهب في سماع زونان شهادته له مليا كان أو معدما، خلاف قول ابن القاسم هاهنا: إن شهادته لا تجوز إذا كان معدما، يريد: والدين حال أو قريب الحلول؛ لأنه يتهم أن يكون إنما شهد له ليوسع عليه في الدين ويؤخره به، وسواء كانت شهادته له بمال أو بغير مال، ولم ير أشهب هذه تهمة ترد بها شهادة الشاهد العدل، وأما إن كان الدين للشاهد على المشهود عليه، أو للمشهود عليه على الشاهد، أو للمشهود له على المشهود عليه، أو للمشهود عليه على المشهود له، فلا يقدح شيء من ذلك في الشهادة.
واختلف في المال القراض يكون بيد المشهود له للشاهد، أو بيد الشاهد للمشهود له- على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن شهادة كل واحد منها لصاحبه جائزة، مليا كان العامل بالمال أو معدما، وهو ظاهر قول أشهب وقول ابن القاسم في سماع أصبغ عنه.
والثاني: أنه إن كان العامل بالمال مليا جازت شهادته لرب المال، وشهادة رب المال له، وإن كان معدما لم تجز شهادة واحد منهما لصاحبه، وهو الذي يأتي على قول ابن وهب.
والثالث: أن شهادة كل واحد منهما لا تجوز لصاحبه إن كانت قبل أن يحرك العامل المال وينشبه في سلع، ويجوز له إن كان قد حركه وشغله في سلع؛ لأن المال إن كان ناضا في يد العامل اتهم في شهادته لرب المال أن يقر المال بيده ولا يأخذه منه، واتهم رب المال في شهادته له أن يعمل بالمال ولا يصرفه عليه، وهو الذي يأتي على قياس قول سحنون، فهذا معنى ما وقع من ذلك كله في سماع زونان من هذا الكتاب، وبالله التوفيق.

.مسألة شهادة الابن لأبيه على أمه:

من سماع أشهب وابن نافع عن مالك قال سحنون: قال لي أشهب، وابن نافع: سئل مالك عن شهادة الابن لأبيه على أمه، فقال: لا يجوز ذلك؛ لأن الابن يهاب أباه ويتقيه، وربما ضربه، قيل له: فشهادته لأمه على أبيه، قال: لا تجوز أيضا شهادته على أبيه، لا تجوز لأبيه ولا لأمه، إلا أن يكون الرجل العدل المنقطع في الصلاح جدا، وإنما تجوز شهادته لهما إذا كان الوالد عدلا منقطعا في الصلاح إن كان الذي شهد عليه الشيء اليسير، وذلك يختلف في القليل والكثير.
قال محمد بن رشد: لا خلاف أعلمه من قول مالك وأصحابه أن شهادة الرجل لا تجوز لأبويه، ولا لأحد من أجداده وجداته وإن علوا، ولا لولده الذكور والإناث، ولا لأحد من أولادهم وإن سفلوا، والأصل في ذلك قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين ولا جار إلى نفسه».
والظنين المتهم فرأى أهل العلم أن الرجل متهم في شهادته لأبويه وأجداده وجداته وإن علوا وولده وولد ولده، فإن سفلوا فلم يجيزوا شهادته لواحد منهم، ولا شهادة واحد منهم له، وأجازوا شهادته على كل واحد منهم، وشهادة كل واحد منهم عليه إذا لم يكن بين الشاهد والمشهود عليه عداوة تعرف، أو يكون يجر إلى نفسه بشهادته نفعا، مثل أن يشهد على أبيه أنه قتل عمدا، أو أنه زنى وهو محصن وله مال أو ليس له مال وهو فقير قد ألزمه السلطان نفقته؛ لأنه يتهم على إرادة ميراثه والاستراحة من النفقة عليه.
وأما شهادته بعضهم على بعض ففي ذلك تفصيل، قال في هذه الرواية: لا تجوز شهادة الرجل لأبيه على أمه، ولا لأمه على أبيه، إلا أن يكون الرجل العدل المنقطع في الصلاح جدا ويكون الذي شهد به لأحدهما على الآخر شيئا يسيرا؛ لأن معنى قوله: وإنما تجوز شهادته لهما، أي لأحدهما على الآخر، وأما شهادته لأحدهما على أجنبي فلا تجوز على حال يسير ولا كثير.
وحكى ابن عبدوس عن ابن نافع: أن شهادة الابن لأمه على أبيه أو لأبيه على أمه جائزة، إذا كان عدلا، إلا أن يكون الابن في ولاية الأب أو يكون الأب تزوج على الأم فأغارها فيتهم الابن، أو يكون غضب لأمه ووجد لها فلا تجوز شهادته حينئذ لها، وسيأتي في رسم يوصي من سماع عيسى القول في شهادته على أبيه بطلاق أمه أو غيرها من نسائه.
ولو شهد لأبيه على ولد أو لولده وليس في حجره على أبيه لتخرج ذلك على الاختلاف المذكور في شهادته لأحد أبويه على الآخر، ولو شهد لأبيه على جده أو لولده على ولد ولده لا ينبغي ألا تجوز شهادته قولا واحدا، ولو شهد لجده على أبيه أو لولد ولده على ولده لا ينبغي أن تجوز شهادته قولا واحدا، وقد اختلف في شهادته لبعض ولده على بعض إذا لم يكن المشهود له في ولايته، فقيل: إنها جائزة، وقيل: إنها لا تجوز على ما يأتي في رسم الجواب من سماع عيسى، وبالله التوفيق.

.مسألة يختصمان في خصومة ثم يمكثان مدة فيشهد أحدهما على صاحبه:

وسئل: عن الرجلين يختصمان في الخصومة ثم يمكثان بعد ذلك سنين، ثم يشهد أحدهما على صاحبه بشهادة، قال: إن كان أمرهما آل إلى سلامة وصلح، فذلك جائز.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية أن مجرد الخصومة في القليل والكثير توجب العداوة بين المتخاصمين وتسقط شهاده أحدهما عن صاحبه؛ لأنه لم يرها جائزة عليه وإن طال الأمد حتى يئول أمرهما إلى سلامة وصلح، وهو أن يرجعا إلى ما كانا عليه قبل الخصومة، ومثله في سماع سحنون ونوازل أصبغ.
ولو سلم كل واحد منهما على صاحبه، ولم يعودا إلى ما كان عليه قبل المحاكمة من التكلم لم تجز شهادة أحدهما على صاحبه، ولم يخرجه ذلك من الهجران إذا لم يكن مؤذيا له على ما يأتي في رسم باع شاة من سماع عيسى، وقال مطرف وابن الماجشون: إذا لم يكن الذي بينهما خاصا فيخرج بالسلام عن الهجرة وتجوز عليه شهادته وإن ترك كلامه، وقد قيل: إن شهادة كل واحد منهما على صاحبه بعد الخصومة جائزة في غير الشيء الذي تخاصما فيه، إلا أن تكون خصومتهما في الأمر الجسيم الذي يورث الحقد والعداوة، وهو قول ابن كنانة، قال: وهذا تفسير الحديث: «لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين». واختلف في الظنين، فقيل: هو المتهم في دينه. وقيل: هو المتهم في شهادته.
وقد قيل: إن شهادة كل واحد منهما على صاحبه جائزة بعد الخصومة وإن لم يصطلحا ما لم يقع بينهما فيها مشاتمة، وهو قول يحيى بن سعيد في نوازل سحنون من هذا الكتاب، قال: وإذا كانت بينهما عداوة معلومة فاصطلحا جازت شهادة كل واحد منهما على صاحبه، وقال مطرف وابن الماجشون، وابن عبد الحكم وأصبغ: وذلك إذا طال الأمر واستحق الصلح وظهرت براءتهما من دخل العداوة؛ لأنه يتهم إذا شهد عليه بقرب ما صالحه على أنه إنما صالحه ليشهد عليه، فلا تجوز شهادته عليه، وسيأتي في رسم باع شاة من سماع عيسى إذا كان الشهود أعداء لا في المشهود عليه أو لوصيه، وبالله التوفيق.

.مسألة السؤال عن الشهود سرا:

وسئل: عن المسألة عن الشهود سرا، أترى ذلك؟ قال: نعم، ولكن لا يسأل إلا العدول.
قال محمد بن رشد: المسألة عن العدول في السر تعديل السر وهو مما ينبغي للقاضي أن يفعله، ولا يكتفي بتعديل العلانية دونه، وله أن يكتفي بتعديل السر دون تعديل العلانية، وحكى هذا ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ، ومعناه في الاختيار دون اللزوم على ما في المدونة وغيرها.
وتعديل السر يفترق من تعديل العلانية في وجهين: أحدهما: أنه لا إعذار في تعديل السر. والثاني: أنه يجزي فيه الشاهد الواحد، وإن كان الاختيار اثنين بخلاف تعديل العلانية في الوجهين، وقد روي عن سحنون: أنه لا يقبل في تزكية السر إلا اثنان، وهو ظاهر ما في المدونة ومعناه في الاختيار، فلا اختلاف في أن الشاهد الواحد يجزي في تعديل السر، وإن كان الاختيار اثنين، وقد حمل ذلك بعض الناس على أنه اختلاف من القول وليس بصحيح، وإنما كان تعديل السر أقوى من تعديل العلانية؛ لأن الشاهد قد يسأل التزكية فيستحيي من التوقف عنها، وروي عن ابن شبرمة أنه قال: أنا أول من سأل في السر، كان الشاهد إذا أتى القوم ليزكوه استحيوا منه، وتعديل السر هو أن يبتدئ القاضي بالسؤال عن الشاهد، فيسأل عنه من يظن أنه خبير بحاله من جيرانه وأهل خلطته ومكانه، أو يتخذ رجلا يوليه السؤال عن الشهود فيقبل ما أخبره به وحده، ولا ينبغي له هو أن يكتفي بسؤال رجل واحد مخافة أن يكون بينه وبين الشاهد عداوة، وتعديل العلانية هو أن يقول القاضي للمشهود له: لا أعرف شهودك، فعدلهم عندي، فهذا لا يجوز فيه إلا شاهدان، ويلزم الإعذار فيهما إلى المشهود عليه، هذا معنى ما في المدونة والواضحة وغيرهما من الدواوين، ولا خلاف في شيء منه، والله الموفق.